الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآية رقم (114): قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما كان قوم طعمة قد ناجوا النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه، نبههم سبحانه وغيرهم على ما ينبغي أن يقع به التناجي، ويحسن فيه التفاؤل والتجاذب على وجه ناه عن غيره أشد نهي بقوله سبحانه وتعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} أي نجوى جميع المناجين {إلا من} أي نحوى من {أمر بصدقة} ولما خص الصدقة لعزة المال في ذلك الحال، عمم بقوله: {أو معروف} أيّ معروف كان مما يبيحه الشرع من صدقة وغيرها.ولما كان إصلاح ذات البين أمرًا جليلًا، نبه على عظمه بتخصيصه بقوله: {أو إصلاح بين الناس} أي عامة، فقد بين سحانه وتعالى أن غير المستثنى من التناجي لا خير فيه، وكل ما انتقى عنه الخير كان مجتنبًا- كما روى أحمد والطبراني في الكبير بسند لا بأس به وهذا لفظه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: إنما الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه».ولما كان التقدير: فمن أمر بشي من ذلك فنجواه خير، وله عليها أجر؛ عطف عليه قوله: {ومن يفعل ذلك} أي الأمر العظيم الذي أمر به من هذه الأشياء {ابتغاء مرضاة الله} الذي له صفات الكمال، لأن العمل لا يكون له روح إلا بالنية {فسوف نؤتيه} أي في الآخرة بوعد لا خلف فيه {أجرًا عظيمًا} وهذه الآية من أعظم الدلائل على أن المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض دنيوي، فإن كان رياء انقلبت فصارت من أعظم المفاسد. اهـ..اللغة: {نجواهم} النجوى: السر بين الاثنين، قال الواحدي: ولا تكون النجوى إلا بين اثنين.{يشاقق} يخالف، والشقاق: الخلاف مع العداوة لأن كلا من المتخالفين يكون في شق غير شق الاخر.{مريدا} المريد: العاتى المتمرد، من مرد إذا عتا وتجبر، قال الازهري: مرد الرجل إذا عتا وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد.{فليبتكن} البتك: القطع، ومنه سيف باتك أي قاطع.{محيصا} مهربا من حاص إذا هرب ونفر، وفي المثل «وقعوا في حيص بيص» أي فيما لا يقدرون على التخلص منه.{خليلا} من الخلة وهي صفاء المودة، قال ثعلب: سمي الخليل خليلا، لأن محبته تتخلل القلب فلا تدعو فيه خللا الا ملأته، قال بشار:{الشح} شدة البخل.{المعلقة} هي التي ليست ذات بعل ولا مطلقة. اهـ. .القراءات والوقوف: قال النيسابوري رحمه الله:.القراءات: {يؤتيه} بالياء: أبو عمرو وحمزة خلف وقتيبة وسهل. الباقون بالنون. {نوله} {ونصله} مثل {يؤده} [آل عمران: 75]. {يدخلون} بضم الياء وفتح الخاء وكذلك في «مريم» و«حم المؤمن»: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ويزيد وأبو بكر وحماد. الآخرون بالعكس {إبراهام} وما بعده في هذه السورة: هشام وكذلك روى الموصلي عن الأخفش عن ابن ذكوان..الوقوف: {بين الناس} ط {عظيمًا} o {جهنم} ط {مصيرًا} o {لمن يشاء} ط {بعيدًا} o {إناثًا} ج لابتداء النفي مع واو العطف. {مريدًا} لا لأن ما بعده صفى له. {لعنه الله} م لأنّ قوله: {وقال} غير معطوف على {لعنه} {مفروضًا} o لا للعطف {خلق الله} ط {مبينًا} ط كيلا يصير {يعدهم} وصفًا للخسران {ويمنيهم} ط {غرورًا} o {محيصًا} o {أبدًا} ط {حقًا} ط {قيلًا} o {الكتاب} ط يجز به لا للعطف {نصيرًا} o {نقيرًا} o {حنيفًا} ط {خليلًا} o {وما في الأرض} ط {محيط} o. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال ابن عاشور: لم تَخْلُ الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة، ولا الأحوال التي حذّرت منها، من تناج وتحاوُر، سِرّا وجهرًا، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها، لذلك كان المقام حقيقًا بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه، لأنّ في ذلك تعليمًا وتربية وتشريعًا، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم، لاسيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين، وكان التناجي فاشيًا لمقاصد مختلفة، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا، أي خوفًا، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهللِ الكتاب، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو {ألَمْ تَرَ إلى الذين نُهوا عن النجوى} [المجادلة: 8] الآيات، وقوله: {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} [الإسراء: 47] وقوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم} [البقرة: 14]، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضًا، فقال: {لا خير في كثير من نجواهم}.فالجملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا لإفادة حكم النجوى، والمناسبةُ قد تبيّنت. اهـ..قال الفخر: قال الواحدي رحمه الله:النجوى في اللغة سر بين اثنين، يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء، ويقال: نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته، والنجوى قد تكون مصدرًا بمنزلة المناجاة، قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون، قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47]. اهـ..قال ابن عاشور: والنجوى مصدر، هي المسَارّة في الحديث، وهي مشتقّة من النجو، وهو المكان المستتر الذي المفضِي إليه ينجو من طالبه، ويطلق النجوى على المناجين، وفي القرآن {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى}، وهو وصف بالمصدر والآية تحتمل المعنيين.والضمير الذي أضيف إليه {نجوى} ضمير جماعة الناس كلّهم، نظير قوله تعالى: {ألا إنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه} إلى قوله: {وما يُعلنون} في سورة هود (5)، وليس عائدًا إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله: {يستخفون من الناس} [النساء: 108] إلى هنا؛ لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلاّ فيما يختصّ بقضيتهم، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله: {إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره، فلا يصير إلى المناجاة إلاّ في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث.فمَن يناجي في غير تلك الأحوال رُمي بأنّ شأنه ذميم، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره، كما قال صالح بن عبد القدوس:وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقال: {ألم تر إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهو عنه} [المجادلة: 8] وقال: {إنّما النجوى من الشيطان ليُحزن الذين آمنوا} [المجادلة: 10].وقد ظهر من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلاّ على أهل الريَب والشبهات، بحيث لا تصير دأبًا إلاّ لأولئك، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى.ومعنى {لا خير} أنّه شرّ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه، لعدم الاعتداد بالواسطة، كقوله تعالى: {فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال} [يونس: 32]، ولأنّ مقام التشريع إنّما هو بيان الخير والشرّ.وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو مُتناجيِهم، فعلم من مفهوم الصفة أنّ قليلًا من نجواهم فيه خير، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع. اهـ. .قال الفخر: قوله: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} ذكر النحويون في محل {مِنْ} وجوهًا، وتلك الوجود مبنية على معنى النجوى في هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى هاهنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب؛ لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصبًا كقوله: {إِلاَّ أَذًى} [آل عمران: 111] ويجوز أن يكون رفعًا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله:إلا اليعافير وإلا العيس.. وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال: التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف، وعلى هذا التقدي يكون {مِنْ} في محل النجوى لأنه أقيم مقامه، ويجوز فيه وجهان: إحدهما: الخفض بدل من نجواهم، كما تقول: ما مررت بأحد إلا زيد.والثاني: النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيدًا، وهذا استثناء الجنس من الجنس، وأما ان جعلنا النجوى اسمًا للقوم المتناجين كان منصوبًا على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس، ويجوز أن يكون {مِنْ} في محل الخفض من وجهين: أحدهما: أن تجلعه تبعًا لكثير، على معنى: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة، كقولك: لا خير في القوم إلا نفر منهم.والثاني: أن تجعله تبعًا للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد، إن شئت أتبعت زيدًا الجماعة، وإن شئت أتبعته القوم، والله أعلم. اهـ..قال ابن عاشور: والاستثناء في قوله: {إلاّ من أمر بصدقة} على تقدير مضاف، أي: إلاّ نجوى من أمر، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين، وهو مستثنى من {كثير}، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم.أمّا القسم الذي أخرجَته الصفة، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع، وليس فيها ضرر، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة، أو نكاح أو نحو ذلك.وأمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور: الصدقة، والمعروف، والإصلاح بين الناس.وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء، فبَقي ما عدا ذلك من نجواهم، وهو الكثير، موصوفًا بأن لا خير فيه وبذلك يتّضح أنّ الاستثناء متّصل، وأنْ لا داعي إلى جعله منقطعًا.والمقصد من ذلك كلّه الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة، ولو تناجى فيها مَن غالب أمره قصد الشرّ. اهـ.
|